في المناطق المحتلة من أوكرانيا، "جعلنا الروس نختار بين التعاون أو السجن أو الموت"
يتم اقتفاء أثر الصحافيين وتهديدهم وإجبارهم على نشر بروباغاندا الكرملين وما تقوله آلته الدعائية. بعد ستة أشهر من غزو روسيا لأوكرانيا، تنشر منظمة مراسلون بلا حدود بشكل حصري قصص صحافيين من جنوب وشرق البلاد يسردون فيها ما يعني فيه العمل في ظل الاحتلال.
شنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حملة عسكرية غير مسبوقة بتاريخ 24 فبراير 2022 تهدف إلى السيطرة على أوكرانيا. والآن، ومع مرور ستة أشهر، أصبح خُمس البلاد محتلاً، ولا تزال المدن الأوكرانية عرضة للقصف، بينما يوجد الصحافيون على الخطوط الأمامية.
عن ذلك، قالت جين كافيليير، رئيسة مكتب أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى في منظمة مراسلون بلا حدود: "يقوم الجيش الروسي باقتفاء أثر الصحافيين المقيمين في الأراضي المحتلة، وذلك سعياً منه لنشر آلته الدعائية والقضاء على أولئك الذين يمكن أن يناقضوا رواية الكرملين الرسمية. يحاول الروس، في المناطق المحتلة، إعادة نشر فقاعة الأخبار الكاذبة التي تم وضعها في روسيا. تقوم منظمة مراسلون بلا حدود بتوثيق هذه الحالات، بحيث تتحمل السلطات الروسية مسؤولية جرائم الحرب المرتكبة بحق الصحافيين".
قالت صحافية في منطقة لوغانسك: "يتوجب علينا في كل يوم نشر ثلاثة ’مواد‘ نشرتها وكالة جمهورية لوغانسك الشعبية". وقالت لنا الصحافية البالغة من العمر 37 سنة، والتي سنطلق عليها اسم أولينا، كيف تعرّضت للاعتقال وتم إجبارها على التعاون مع قوات الاحتلال الروسي: "تم اختزال دورنا بنشر بروباغاندا تحتفل بـ’نجاحات‘ المحتل، مثل إطلاق خدمات إدارية وما إلى ذلك. ويقوم جندي بالمصادقة على قراراتنا من خلال قناة دردشة مشتركة على تطبيق تيليغرام".
أما فلاديسلاف هلادكي، 44 عاماً، فقد تحدث إلى منظمة مراسلون بلا حدود عن 5 أشهر أمضاها يعمل بشكل سري في مدينة خيرسون المحتلة، الواقعة في جنوب أوكرانيا ويبلغ عدد سكانها 300 ألف نسمة، حيث كان يقيم مع زوجته يفينيا فيرليش، التي تعمل محررة في وسيلة إعلامية محلية: "منذ بدء الاحتلال، أخذوا يبحثون عن صحافيين، بالإضافة إلى النشطاء والمسؤولين المنتخبين، أي باختصار، أي شخص يمكن أن يشكل عائقاً أمام الجهود الدعائية للدولة الروسية. أسماؤنا ووجوهنا معروفة نسبياً في خيرسيون، وكنا خائفين من أن تتم إدانتنا".
في النهاية، غادر هلادكي المدينة في مطلع شهر يوليو، واضعاً حداً للظروف الصعبة التي يعيش فيها بعد أن كان مجبراً على تغيير موقعه بشكل مستمر من أجل الاستمرار في إعداد التقارير، بينما كان المصير الوحيد الذي ينتظره: "رصاصة بندقية كلاشينكوف روسية في أفضل سيناريو، والتعذيب في أسوأ سيناريو".
أما يوليا هاركوشا، 42 عاماً، فقد وصفت اقتفاء أثرها في مدينة ماريوبول، دون أن تحظى باتصال إنترنت، ولكن وسط رغبة منها بأن تقوم، مهما كلّف الثمن، بتوثيق جرائم الجيش الروسي والأهوال المستمرة التي تعيشها المدينة المحاصرة، وذلك رغم أن مسيرتها العملية المتألقة وصلاتها المهنية تعني أنها في مقدمة قائمة استهداف المحتلين الروس: "مقابر جماعية في أفنية المباني، والأشخاص الذين يدفنون جيرانهم، والدمار والنهب... رغم تعرّضي لخطر الموت في أية لحظة، قمت بالتصوير والتوثيق على مدى ثلاثة أسابيع، وفي بعض الأحيان كنتُ أتحرك تحت وابل النيران على زلاجة سكوتر مع ابني البالغ من العمر 6 سنوات ".
تنشر منظمة مراسلون بلا حدود بشكل حصري قصص هؤلاء الصحفيين الثلاثة التي تسلّط الضوء على فصول حرب المعلومات في الأراضي المحتلة.
أولينا، صحافية من منطقة لوغانسك – "منحوني ثلاثة خيارات: السجن أو ’الترحيل‘ أو التعاون"
"استيقظتُ في الخامسة فجراً في 24 فبراير على صوت انفجار. كان صاروخاً روسياً. لم أذهب إلى الصحيفة، وكذلك زملائي الثلاثة. أما العدد الأخير، الذي كنا قد جهزناه في اليوم السابق وتمت طباعته خلال الليل في خاركيف، فلم يتم توزيعه .
لكننا استمرينا في العمل من المنزل خلال الأيام التالية. وشركاؤنا الموجودون في المنطقة الحرة بدؤوا الإشراف على الموقع الإلكتروني للصحيفة. في هذه الأثناء، استخدمنا حساباتنا على فيسبوك وتليغرام لتقديم المعلومات عن الحالة في الجبهة، والمظاهرات ضد الاحتلال، والمتاجر التي لا تزال تستقبل الزبائن.
قام الجيش الروسي باحتلال البلدة في مطلع مارس. تم قطع الاتصالات بالهاتف المحمول، وتم استبدال قناة التلفزيون الأوكراني بالقنوات الروسية التي تبث البروباغاندا. لم يكن متاحاً سوى الإنترنت الأرضي. عندما تكون صحفياً في بلدة صغيرة كبلدتنا، تكون معروفاً من قِبل الجميع. كان من المستحيل أن تستمر بالعمل كالسابق، ومن المستحيل ألا تستسلم للرقابة الذاتية. تجنّبتُ أي شيء يمكن اعتباره معادياً لما هو روسي. كنتُ خائفة حقاً، وبالكاد خرجتُ من المنزل.
’الحقي بنا، نريد الحديث معك. بخصوص مهنتك...‘ في 1 أبريل، تم توقيفي بينما كنتُ أخرج من المنزل على يد شخص يرتدي زياً عسكرياً، زيّ لم أتعرّف عليه لأن هناك فصائل مختلفة من القوات الروسية. دخل ثلاثة أو أربعة منهم إلى منزلي، وأعطيتهم حاسوبي المحمول وهاتفي. ولكن سُمح لي أن أبعث برسالة إلى أمي عبر تطبيق (Viber) وأعلمها عن ذلك. كنتُ بحالة جعلتني لا أتذكر ما الذي كتبته لها.
اصطحبوني بسيارتهم التي لم تكن تحمل رقماً، وجعلوني أغطي عيني بقناع طبي. وعند وصولنا إلى أحد المباني، الذي عرفتُ لاحقاً أنه كان مقر موظفي وزارة أمن الدولة لجمهورية لوغانسك الشعبية، جعلوني أجلس ورأسي باتجاه الحائط. ثم تم نقلي عبر حافلة صغيرة إلى لوغانسك. ومن خلال طرف القناع الذي كان لا يزال يغطي عيني، عرفتُ وشاح إحدى زميلاتي. شلّني الخوف ولم أعد قادرة على التفكير.
في غرفة الانتظار قبل بدء التحقيق، كان المشرف غائباً لفترة وجيزة. ورغم أن عيني كانتا لا تزالان مغطاتان بالقناع، كان أمامي متّسع من الوقف يكفي لكي أقول لزميلتي أن عليها رفض التعاون. وبعد ستة ساعات ونصف، استجوبوني بمفردي عن حياتي وعملي. تفاصيل غير مهمة! تاريخ ميلادي ومكان دراستي وراتبي... نفس الأسئلة مرة بعد أخرى. كان هناك أربعة محققين، أحدهم "لطيف"، واثنان كانا يدخلان الغرفة ويطرحا أسئلة عدوانية، والأخير كان شبه ثمل وتعليقاته غير متماسكة. لا أعرف كيف حافظت على رباطة جأشي. كان الجو حاراً، ولم يسمحوا لي بخلع معطفي. ولم يقدموا لي الماء.
طلبوا مني تسليم كل شيء ثمين أملكه، وكأنني في السجن، ثم تم اصطحابي إلى المستوصف حيث قمت بملء استمارة أعطتني إياها ممرضة. تحققت من ضغط الدم لديّ ثم أعطتني دواء لضغط الدم. وفي غرفة أخرى، أخذوا بصماتي وصورتي، وكأنني مجرمة. وفي النهاية، وجدتُ نفسي في زنزانة مع زميلتي والمحرر الذي تم اعتقاله قبلنا بأيام قليلة.
منحنا المحتلون ثلاثة خيارات – السجن أو ’الترحيل‘ أو التعاون. جوابتنا المشترك كان متوقعاً صباح اليوم التالي. ’الترحيل‘ [وهو مصطلح تستخدمه القوات المحتلة] بالنسبة لي لم يكن خياراً، لأنني لم أكن أعلم ما الذي يعنيه، وأين سيتم إطلاق سراحنا، ولأنه يمكن تركنا عند أحد الحواجز ليتم اعتقالنا في الحاجز التالي. أما المحرر، فقد تم منحه ’الخيار‘ بين التعاون أو السجن مدى الحياة أو عقوبة الإعدام. كنا خائفين جداً، و’وافقنا‘ على التعاون.
وحالما خرجتُ بإطلاق سراح مشروط، بعثتُ برسالة إلى الشركاء الذين كانوا يديرون موقعنا الإلكتروني لكي يحذروا وسائل الإعلام في المنطقة التي يُرجح أن تكون التالية على القائمة. حذفتُ الرسالة حالما أرسلتها. فالجنود يمكن أن يلتقطوا هاتفك في الشارع حتى ويتحققون مما يوجد فيه.
بعد أسبوع أو أسبوعين، أتى إلى مقر الصحيفة ثلاثة رجال يرتدون زياً رسمياً، وأحدهم يعتمر قبعة، حيث قاموا بتصوير المعدات والبحث في أجهزة الحاسوب للتأكد من أننا ننشر ’معلوماتهم‘ على حسابات صحيفتنا على فيسبوك وتيليغرام، كانت عملية ترهيب حقيقية. كان علينا أن ننشر كل يوم ثلاثة ’مواد‘ صادرة على وكالة أخبار جمهورية لوغانسك الشعبية. تم اختزال دورنا بنشر بروباغاندا تحتفل بـ’نجاحات‘ المحتل، مثل إطلاق خدمات إدارية وما إلى ذلك. ويقوم جندي بالمصادقة على قراراتنا من خلال قناة دردشة مشتركة على تطبيق تيليغرام. كنتُ مدمرة. كيف أقبل بذلك؟ لكننا كنا نعيش وسط حالة من الخوف من اتخاذ أي خطوة خاطئة والتعرّض للاعتقال. كان مستوى الضغط غير محمول. كنتُ مدركة أنه يجب علي الفرار. ولكن كيف؟ فالشخص الذي استجوبتني في لوغانسك أشار ضمنياً إلى أن هناك قائمة للأشخاص الممنوعين من مغادرة المنطقة المحتلة.
عندما قام زميل سابق يتعاون مع خدمات الصحافة للقوات الروسية المحتلة بمراسلتي، أدركتُ أن ذلك بهدف عرض عمل عليّ، ورفضت العرض. بعدها بخمسة أيام، أتى رجل يرتدي زياً رسمياً إلى الحي الذي أقطن فيه، كان يبحث عني واستجوب جاري. وحرصاً على سلامتي، لم أعد قادرة على البقاء هنا، وتوجّب علي حماية صحيفتي. وكالعادة، دعمني شركاؤنا، وتوسّلوا إلي بالمغادرة. وبعد ذلك بفترة قصيرة، قمتُ بالفرار مع شخص متخصص بخدمات الإجلاء مكلفة وخطرة نتيجة عمليات التفتيش على الحواجز الروسية. ومنذ ذلك الحين، أعمل كمحررة مع وسيلة إعلامية أوكرانية أخرى.
الصحافي المقيم في خيرسون فلاديسلاف هلادكي: "أغراني الاستسلام، ثمن كل ما أقوم به هو رصاصة بندقية كلاشينكوف روسية في أفضل سيناريو، والتعذيب في أسوأ سيناريو"
"عندما بدأ القتال قرب خيسون في 24 فبراير، أردتُ الذهاب إلى هناك كي أقوم بالبث المباشر عبر فيسبوك، ولأكون شاهداً على الغزو. ولكن كان من المستحيل الوصول إلى هناك بسبب عدم توافر وسائل نقل عامة، ورفضت سيارات الأجرة الذهاب إلى تلك الوجهة، أما أجهزة الصراف الآلي فلم تكن تعمل، والهواتف الأرضية مقطوعة. اتجهتُ للإخلاء في مكتب المدعي العام المحلي في 24 فبراير.
تمت محاصرة المدينة في 28 فبراير، ومن ثم احتلالها. وفي 2 مارس، تم إنشاء قاعدة عسكرية قرب منزلنا، وشاهدت موكباً من السيارات المصفحة تحت نافذتي حيث كان الضوء خافتاً والأرض مغطاة بثلج متّسخ آخذ بالذوبان. كان بوسعهم إطلاق النار علينا في أية لحظة. قمت بتغطية النوافذ بملاءات السرير، وتجنبتُ إشعال الأضواء وبقيت هادئاً. كانت هذه الإجراءات الاحتياطية عقيمة بشكل كامل لأنه سرعان ما أتى رجال مسلحون وأخذوا يطرقون باب المنزل بشدة. كانت زوجتي، وهي صحافية أيضاً، قد غادرت المنزل لجلب حصة غذائية من أحد الأصدقاء. لاحظت وجود أولئك الرجال واتصلت بي فوراً لتطلب مني عدم فتح الباب. اتجهوا مباشرة إلى شقتنا، وهو ما يثبت أننا كنا مستهدفين. انتظرت بحالة من الصمت طيلة 20 دقيقة دون أن أتحرك. نتيجة الرعب الذي انتابني، قمت بإعادة ضبط أحد هواتف العمل لأحذف كل البيانات. غادرنا المنزل عقب هذه الحادثة، إلا أن الجنود الروس عادوا أربع مرات لاستجواب الجيران ومحاولة معرفة مكاننا.
منذ بداية الاحتلال، كانوا يبحثون عن الصحافيين والنشطاء والمسؤولين المنتخبين، باختصار كل من يُحتمل أن يعوّق جهود الآلة الدعائية للدولة الروسية. أسماؤنا ووجوهنا معروفة نسبياً في خيرسيون، وكنا خائفين من أن تتم إدانتنا. في 27 فبراير، أوقفتُ إمكانية الوصول إلى صورنا والمعلومات الشخصية عبر فيسبوك. وقمتُ باستبدال صورتي الشخصية بصورة أقزام برونزية التقطتها في مدينة فروتسواف. اعتقد الجميع أننا ذهبنا إلى هناك.
سمحت لنا هذه القصة المختلَقة بالعمل بالاستمرار بالعمل بشكل نشط، وكأننا وجدنا ملجأ، وذلك بالنسبة لزوجتي ومؤسستها الإخبارية، وأنا في وسيلة الإعلام الإلكترونية التي أعمل معها. جمعت المعلومات من وسائل التواصل الاجتماعي، وتحققتُ من مصادر أخرى، ونشرت ملخصات على قنواتي على تيليغرام. أشرتُ إلى أن الروس يقومون بتصفية قطاع الإعلام الإخباري، ويغلقون قنوات الإذاعة والتلفاز على وجه الخصوص. قمتُ بتحليل آلتهم الدعائية، ونشرت معلومات ’المتعاونين‘ مع القوات المحتلة، والنشطاء الذين تعرّضوا للاختطاف عقب المظاهرات، بما في ذلك الناشط الإسباني في مجال الإغاثة الإنسانية مارينانو غارثيا كالاتيايود والناشطة إرفينا هوروبتسوفا، التي لا تزال محتجزة على يد الروس. بالإضافة إلى نشر المعلومات لعامة الشعب، تمثّل هدفي بلفت أنظار الحكومة الأوكرانية إلى صعوبة الوضع في خيرسون.
أصعب مرحلة كانت هي قطع الاتصالات. حصل ذلك أول الأمر من 30 أبريل إلى 4 مايو، ومن ثم في 30 مايو مجدداً. فبدون إنترنت وهاتف، لم يكن أمامنا من خيار سوى الاستماع إلى الإذاعة الروسية. ونظراً لكون قناتي على تطبيق تيليغرام لم تشهد أي نشاط لعدة أيام، كنت خائفاً من أن تتم ملاحظة ذلك، وأن الناس سيدركون أني لا زلتُ موجوداً في خيرسون، وهو ما سيعرّض عملي للخطر. وعندما تم استئناف خدمات الإنترنت بعد الانقطاع الثاني، كانت الخدمة روسية، وبالتالي المواقع الإلكترونية الأوكرانية وفيسبوك وإنستغرام محجوبة أو خاضعة للرقابة. ومن أجل الاستمرار بالعمل، خاطرتُ باستخدام خدمة الإنترنت هذه ولكن مع تفعيل (VPN) [شبكة افتراضية خاصة تقوم بتشفير الاتصال].
زادت صعوبة الاستمرار "بقصتنا المختلقة"، وبدأ المعارف يتساءلون عن سبب عدم مقابلتنا أصدقاء مشتركين في بولندا وعدم نشر أي صور غير تلك لأقزام برونزية. كانت هناك الكثير من الأسئلة. وفي أحد الأماكن العديدة التي اختبأنا فيها سمعتْ زوجتي في أحد الأيام من خلال النافذة شخصاً يسأل الجيران إن كانوا قد التقوا بزوجتي. لحسن الحظ، كنا قد وصلنا في صباح ذلك اليوم دون أن نلتقي بأي أحد وقمنا بتغطية النوافذ. ولتجنّب الخروج من المنزل، كان يتم إيصال الطعام إلينا. أما الطرقات، فقد أصبحت مهجورة.
كانت لعبة الكر والفر المستمرة هذه متبعة. داعبت خيالي في بعض الأحيان فكرة أن أستسلم كلياً وأنسحب إلى الزاوية وأبكي. شعرتُ أني لا أقوم بما هو كافٍ، وأن لا معنى لعملي. النتيجة الوحيدة التي يمكن أن أتوقعها هي رصاصة بندقية كلاشينكوف روسية في أفضل سيناريو، والتعذيب في أسوأ سيناريو. ولكي أتمكن من المضي قدماً، كان علي الاستمرار بالكتابة.
في مطلع شهر يوليو، بدأت قوات شرطة جديدة من الاحتلال بطرق كافة أبواب المبنى الذي كنا نختبئ فيه. وعبر النظر في العين السحرية، شاهدتُ رجلاً يحمل سلاحاً آلياً ويرتدي قميصاً أسود اللون وبنطالاً أخضر دون أي إشارات أخرى للجهاز الذي ينتمي إليه. حاول فتح الباب، إلا أنه كان مغلقاً، وشدّه باتجاهه. انتابني خوف شديد، وقمتُ بشد المقبض من الداخل. أدركتُ في تلك اللحظة أني غير قادر على الصمود نفسياً أكثر من هذا. غادرنا بعد ذلك بفترة وجيزة، وقطعنا حوالي 40 حاجزا. ارتديتُ ملابس بسيطة ووضعتُ نظارات واعتمرتُ قبعة وحلقتُ ذقني. وعلى حضني كانت هناك قطة شتتت انتباه الجنود عن وجهي المرتعِب. حالفنا الحظ.
الصحافية في ماريوبول يوليا هاركوشا: "توجّب عليّ تدمير كل شيء عندما غادرتُ المدينة، ولكن تلك التقارير ستظلّ محفورة في ذاكرتي"
"في اليوم الخامس من الحرب، اختفى كل شيء فجأة من ماريوبول: الماء والغاز والاتصالات. كنا معزولين بشكل كامل. لم يكن لدى أحد أي معلومات، وكان هذا هو الأمر الأصعب. كان من المستحيل معرفة ما يجري في البلاد، وما علينا القيام به، وما إذا كان بوسعنا الخروج من المدينة.
في 5 مارس، أعطاني أحد الأصدقاء جهاز مذياع صغير يتلقى ترددات الإذاعات الأوكرانية. اتجهتُ إلى النافذة في السادسة مساءً للاستماع إلى الأخبار، ومن ثم إعلام الجيران الذين كانوا يرغبون بمعرفة ما يجري. وفي أحد الأيام، عرفتُ أن هناك منظمة تتلقى إشارة تلفزيونية – بأعجوبة ما – وهو ما جعلني أقطع المدينة سيراً على الأقدام لمدى ساعتين مخاطراً بحياتي على مرمى النيران لكي أشاهد الأخبار.
عملتُ لمدة سبع سنوات على برنامج إخباري تلفزيوني. اعتقدتُ أنني شاهدتُ أسوأ ما يمكن: حوادث وحرائق، بل وحتى أجزاء دماغ على الرصيف. اعتقدتُ أن هذه النظرة الساخرة وما مررت به سيُساعدني على تحمّل أهوال الحرب. لكن كان من المستحيل أن أستعدّ لما قام به الروس تجاهنا. مقابر جماعية في أفنية المباني، والأشخاص الذين يدفنون جيرانهم، والدمار والنهب. رغم تعرّضي لخطر الموت في أية لحظة، قمت بالتصوير والتوثيق على مدى ثلاثة أسابيع، وفي بعض الأحيان كنتُ أتحرك تحت وابل النيران على زلاجة سكوتر مع ابني البالغ من العمر 6 سنوات. لم تسمح لي الظروف بأن أتركه وحيدا. كنت على قناعة بأنه سيكون من المفيد توثيق هذه الجرائم، وساعدني ذلك على تخفيف وطأة الضغوط النفسية. ولكي أتمكن من الخروج، توجّب عليّ تدمير كل شيء عندما غادرتُ المدينة، ولكن تلك التقارير ستظلّ محفورة في ذاكرتي.
كنتُ هدفاً رئيسياً للجيش الروسي. وبسبب طبيعة مهنتي، كنتُ أعرف الكثير من الجنود المحليين، ويمكن بسهولة الوصول إلى مقالاتي على الإنترنت. كما عملتُ منسِّقة لصحفيين أجانب، واصطحبتهم إلى المرفأ لرؤية مواقع قواتنا قبل الحصار. بوسع الروس الحصول على الكثير من المعلومات الحساسة مني وقد أتعرّض للسجن بسبب نشاطي الإعلامي. سكنتُ في زقاق مسدود، حيث لا يوجد سوى 20 منزلاً. كان من السهل تمييزي هناك، وكافة الجيران كانوا على دراية بأني صحافي.
تمكنتُ من مغادرة ماريوبول – التي كانت لا تزال تحت الحصار وخلال عمليات القتال – في 19 مارس. وحالما حصلت على تغطية في الهاتف المحمول في قرية محتلة لجأتُ إليها، شاركتُ في تغطية مباشرة لصالح Radio Svoboda (وهي فرع أوكراني لإذاعة Radio Free Europe/Radio Liberty الأمريكية)، حيث قمتُ بوصف الوضع السائد في ساحل أزوف. لكن سرعان ما انقطعت الاتصالات هناك مجدداً. كنتُ عازماً على إرسال المعلومات والفيديوهات لزملائي، ولم يكن لدي متّسع من الوقت لإرسال عنواني. ووجدتُ نفسي تحت نير الاحتلال لشهر آخر.
بعد ذلك بفترة قصيرة، دخل خمسة رجال، هم أعضاء في شرطة جمهورية دونيتسك إلى مكان إقامتي وطلبوا المعلومات الخاصة بكل شخص موجود. تظاهرتُ بأني ربّة منزل كسرت هاتفها المحمول. ولاحقاً، ونتيجة اليأس قررت أن أقف في الطابور في السوق المحلي لإجراء مكالمات عبر الهاتف، حيث كان الجنود الروس [الوحيدون الذين يملكون هواتف بأرقام روسية وبالتالي يملكون اتصالاً] يعيرون حواسيبهم النقالة للمقيمين كي يهاتفوا أقرباءهم في أوكرانيا. اتصلت بأحد المهربين الذي طلب مني أن أحذف من كافة أجهزتي الإلكترونية – الهواتف وغيرها – كافة المعلومات التي يمكن أن تلفت أنظار الجنود الروسي عند نقاط التفتيش، وأن أنتظره حتى يأتي ليأخذني.
بعد أيام قليلة، قطعنا 20 حاجزاً روسياً. كنت خائفة. حضّرتُ نفسي ذهنياً للتظاهر بأنه كان عليّ إجلاء ابني من أجل معالجته طبياً. في تلك المرحلة، لم يكن الجنود الروس يفتشون النساء في تلك المرحلة، لكن توجب على صديقتي التي كانت تعمل لصالح منظمة غير حكومية إغاثية أن تخلع ثيابها. من أجل الفرار، توجّب علي أن أترك ورائي كل معداتي المهنية. لفتت انتباههم محفظة حاسوبي المحمول، لكن كل ما وجدوه فيها هو ثياب داخلية لأطفال، وسمحوا لنا بالمرور. لم يحالف الحظ الجميع، فالجنود الروس يعتقلون أي شخص في حال لم يرق لهم شكل المرء. وفي نقطة التفتيش الأخيرة، رأيتُ شاباً يتم إخراجه من الحافلة. كان وحيداً وشاحباً في خندق مع حقيبته. غادرت الحافلة، وبقي في مكانه".
كتب هذه التدوينات صحافيون اختبروا الاحتلال في ثلاثة مناطق مختلفة، وحصلت منظمة مراسلون بلا حدود على هذه الشهادات في مطلع شهر أغسطس عبر الهاتف. قامت المنظمة بالتحقق من خلفيات الصحافيين من خلال شركائها ومصادر محلية أخرى. يتحدث بعضهم بشكل علني للمرة الأولى، بينما سبق وتحدث آخرون لوسائل إعلام أوكرانية.
تم حذف بعض التفاصيل لأسباب أمنية، رغم أن الصحافيين متواجدون حالياً في المنطقة الحرة. ومن أجل عدم تعريض حياة الأقارب في المناطق المحتلة للخطر، تم حذف الاسم من إحدى الشهادات.