صحافة مُنهكة في سياق ديمقراطي متدهور
تكشف نسخة 2017 من التصنيف العالمي لحرية الصحافة الذي نشرته مراسلون بلا حدود أن الانتهاكات المرتكبة ضد حرية الإعلام لم تعد بالضرورة حكراً على الأنظمة الاستبدادية والدكتاتورية. ذلك أن هذه الحرية المكتسبة مبدئياً أصبحت عُرضة للخطر على نحو متزايد حتى في بعض الدول الديمقراطية. فسواء تعلق الأمر بتصريحات مقرفة أو بقوانين سالبة للحرية أو بتضارب المصالح أو حتى باللجوء إلى العنف، أضحت الأنظمة الديمقراطية تكثف من العقبات التي من شأنها أن تقيد حرية تُعد في الأصل من المؤشرات الرئيسية لحسن عملها.
ففي غضون سنة واحدة فقط، تراجع بنسبة 2.3٪ عدد البلدان التي يُعتبر فيها وضع وسائل الإعلام بين جيد و جيد إلى حد ما. فحتى البلدان التي تمثل نموذجاً ديمقراطياً ليست في منأى عن هذا التقهقر، حيث فقدت كندا 4 مراكز في ترتيب هذا العام (لتحتل المرتبة 22 من أصل 180 دولة)، بينما خسرت الولايات المتحدة مركزين (لتأتي في المرتبة 43)، فيما تراجعت بولندا (54) 7 مراكز مقابل 8 لنيوزيلندا (13) و7 لناميبيا (24). هذا وقد أصبحت مؤشرات تدهور حالة حرية الصحافة بادية للعيان بشكل لا غبار عليه في الديمقراطيات الأوروبية على وجه الخصوص. ففي جدول عام 2017، سُجل تراجع حتى في أوساط بلدان شمال القارة العجوز التي تحتل عادة مراكز الريادة في التصنيف السنوي لمنظمة مراسلون بلا حدود (-3 بالنسبة لهولندا مقابل -2 لفنلندا التي تفقد الصدارة لأول مرة منذ ست سنوات). صحيح أن أوروبا تظل المنطقة الجغرافية الأفضل تصنيفاً على مستوى المؤشر العام، بيد أنها تُعتبر في المقابل القارة التي شهدت أكبر تدهور في غضون خمس سنوات، حيث بلغ معدل تراجعها ما لا يقل عن 17.5٪، علماً أن مؤشر منطقة آسيا-المحيط الهادئ مثلاً شهد تغييراً بنسبة 0.9٪ خلال الفترة ذاتها.
وفي هذا الصدد، يشدد كريستوف ديلوار، الأمين العام لمنظمة مراسلون بلا حدود، على ضرورة بقاء الأنظمة الديمقراطية نموذجاً لبقية العالم، وليس العكس، علماً أن هذه الدول جعلت من حرية الصحافة إحدى القواعد الأساسية التي بُنيت عليها، مضيفة أن التمادي في استخدام ذريعة حماية المواطنين للالتفاف على الحرية الأساسية المتمثلة في نقل الأخبار قد يهدد الديمقراطيات بفقدان جوهرها.
تطور توزيع الألوان في جدول الترتيب منذ عام 2013
تطور المؤشرات الإقليمية (من الأكبر إلى الأصغر)
إن هذا التراجع على مستوى الديمقراطية في مجال حرية الصحافة ليس بالشيء الجديد، بل كان يمكن التنبؤ به من خلال إلقاء نظرة على نسخ التصنيف في الأعوام السابقة. ولكن اللافت للنظر هذا العام هو مدى الهجمات المسجلة وطبيعتها.
أولاً. بين الخطابات الملغومة والضغوط السياسية المحمومة
لعل انتخاب الرئيس الـ45 للولايات المتحدة جاء ليُعجل بملاحقة الصحفيين. فقد تكررت مشاهد مساجلات دونالد ترامب التي يعتبر فيها وسائل الإعلام والصحفيين من بين أكثر الناس احتيالاً في العالم، متهماً الصحافة بتعمد نشر أخبار زائفة، إذ من خلال مهاجمة السلطة الرابعة وممثليها بهذا الشكل، يكون الرئيس الجديد قد أجهز على التقليد الأمريكي الذي طالما تميز بحرصه على ضمان حرية التعبير والنضال في سبيلها. كما يُسهم هذا الخطاب القائم على الكراهية والأكاذيب والاتهامات في إعطاء الضوء الأخضر لتكثيف الهجمات ضد الصحافة في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك البلدان الديمقراطية.
وبينما لا تزال أصداء الحملة الانتخابية الرئاسية تصم الآذان في أمريكا، ها هي فرنسا (المرتبة 39 في تصنيف 2017) تتأهب لاكتشاف هوية رئيسها الجديد، حيث أصبحت البلاد تعيش على وقع الهجمات الكلامية التي يشنها بعض الفاعلين السياسيين ضد وسائل الإعلام بتهمة الافتراء. ففي أجواء مشحونة يطغى عليها العنف والتصادم على نحو خاص، حيث أصبح من الطبيعي أن يتعرض الصحفيون للإهانة والاستهجان خلال أنشطة المرشحين عندما يُنظر إلى ممثلي وسائل الإعلام باعتبارهم أشخاصاً غير مرغوب فيهم، مما ينذر بتخبط الفرنسيين في متاهة الحقائق البديلة وما بعد الحقيقة.
سياسة تقريع وسائل الإعلام ليست حكراً على ترامب
يُعد التشكيك في مصداقية وسائل الإعلام السلاح المفضل لمناهضي المنظومة الحاكمة. وقد لجأ إليه دونالد ترامب بشكل مفرط، شأنه في ذلك شأن نايجل فاريج في بريطانيا (المرتبة 40، -2)، حيث ركز الرئيس السابق لحزب يوكيب (حزب استقلال المملكة المتحدة) المناهض للأجانب حملته على مهاجمة وسائل الإعلام، وخاصة هيئة الإذاعة البريطانية بي.بي.سي. وفي إيطاليا (52) تحول بيبي غريلُّو من كوميدي إلى سياسي شعبوي يتزعم حركة 5 نجوم حيث صرح بأنه يفضل مدونته على القضايا السخيفة المُثارة في الصحافة، داعياً إلى إنشاء هيئة شعبية للاضطلاع بمهمة تحديد مدى صحة المعلومات التي ينشرها الصحفيون.
بيد أن أصداء الخطاب الأمريكي المعادي لوسائل الإعلام بلغت حتى القارة الأفريقية. فبينما ينهال دونالد ترامب والمتحدث باسمه شون سبيسر على الصحافة بعبارات التهديد والوعيد (من قبيل التشديد على ضرورة إخضاع الصحفيون للمساءلة)، ينذر جون ماغوفولي رئيس تنزانيا (-12 مركزاً في ترتيب 2017) باقتراب نهاية الصحف المتهمة ببث الفتنة والشقاق، حيث أقال مؤخراً وزير الإعلام في حكومته الذي أكد أنه يتحمل مسؤولية حماية وسائل الإعلام وحرية التعبير منتقداً في الوقت ذاته اقتحام محافظ دار السلام لاستوديوهات محطة إذاعية وتلفزيونية خاصة. فمن خلال ذلك، يؤكد الرئيس الملقب بـtingatinga، البلدوزر باللغة السواحيلية، أنه قادر على مهاجمة حرية الصحافة دون حسيب ولا رقيب.
وإذا كان اللجوء إلى التجريح الذي يساهم في تشويه سمعة الصحافة أمام عامة الجمهور قد أصبح يُسخدم بوتيرة متسارعة كأداة من أدوات الضغط الشائعة، فإن القادة السياسيين مازالوا يتشبثون حتى الآن بالأساليب التقليدية لعرقلة عمل وسائل الإعلام.
الضغوط السياسية المباشرة وغير المباشرة
شهد العام الماضي أمثلة عديدة لمحاولات التدخل مباشرة لتغيير محتويات بعض المنشورات من قادة بلدان توصف بالديمقراطية. ولا شك أن فنلندا هي الدولة التي عاشت على وقع القضية الأكثر إثارة للدهشة. فبعدما اعتلت صدارة تصنيف منظمة مراسلون بلا حدود على مدى ست سنوات، بدا أن البلاد، على غرار صحفييها المعتادين على الممارسات المهنية الجيدة، لم تكن مستعدة لمواجهة نوبات الغضب من رئيس وزراء يحشر أنفه بشكل مباشر في برامج المحطة الإذاعية العامة لكي تكف هذه الأخيرة عن التطرق إلى قضية تضارب محتمل في المصالح، علماً أنه يُعد من المتورطين فيها. كما سُجلت حالات أخرى من الضغوط السياسية المباشرة وعرقلة محاولات العمل الصحفي في كل من أوروغواي (المركز 25؛ -5 مراتب في تصنيف 2017) وتشيلي (المركز 33؛ -مرتبتين)، حيث شهدت البَلدان ضغوطاً على أعلى مستويات هرم الدولة أو مؤسساتها من أجل التعتيم على قضايا متعلقة بالفساد أو سوء الإدارة المالية أو تضارب المصالح. وهو نفس الوضع الذي تكرر في النيجر (61؛ -9)، حيث تُلاحق السلطات ثلاثة صحفيين محليين كان ذنبهم الوحيد نشر معلومات تتعلق بشخصيات بارزة في هذا البلد، الذي كان مثالاً يحتذى باعتباره أول دولة في أفريقيا تصادق على إعلان ويندهوك الذي يلغي تجريم جنح الصحافة.
ولتجنب متاعب التدخل اللاحق، يفضل بعض زعماء الدول الديمقراطية توسيع دائرة سلطاتهم وتعزيز نطاق صلاحياتهم. ولعل بولندا تمثل الحالة الأبرز في هذا الصدد، حيث تواصل البلاد تقهقرها المهول على سُلم الترتيب (-7 مراكز في نسخة 2017 بعد تراجعها الكبير العام السابق بواقع 29 مرتبة). فمنذ سنتين، استصدرت الحكومة البولندية المحافظة سلسلة من التشريعات المثيرة للجدل والتي تمكنت بموجبها من إخضاع الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون لسيطرة السلطة التنفيذية مع تغيير المسؤولين عنها على الفور. وبعد أن حول وسائل الإعلام العامة المستقلة إلى أدوات للدعاية، ناهيك عن انتهاج أسلوب الخنق المالي للإجهاز على الصحافة المعارضة لتعديلاته التشريعية، يواصل حزب القانون والعدالة المتشدد المحافظ حملته الرامية إلى تأميم قطاع الصحافة، رغم الانتقادات اللاذعة التي تنهال عليه.
وفي سياق متصل، أصبحت الضغوط التي يمارسها رئيس الوزراء الإسرائيلي ضد الصحافة بادية للعيان أكثر من أي وقت مضى. فإذا كانت إسرائيل (المركز 91) قد ارتقت في تصنيف 2017، وهي التي تُعتبر غالباً الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، إلا أن بنيامين نتانياهو يوصف بـالمهووس من قبل وسائل الإعلام والصحفيين الذي يدخلون في عداد أعدائه، علماً أنه يحاول منذ أشهر إضعاف سلطات الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، التي تُعتبر برامجُها صعبة الانقياد.
ثانياً. مطاردة المصادر
يضطلع الصحفيون بدور الرقيب الوصي على الديمقراطية حيث تُعتبر حماية مصادر معلوماتهم حجر الزاوية لحرية الإعلام. بيد أن هذه المبادئ التي تقرها المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان تواجه هجمات علنية على نحو متزايد في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك البلدان الديمقراطية التي تبنتها. فبينما اتضحت بالملموس أهمية دور كاشفي الفضائح ووسائل الإعلام في سبيل توعية المواطنين بشأن المسائل ذات المصلحة العامة عقب الكشف عن أوراق بنما في عام 2016، يظل الاتجاه السائد يتجلى في اعتماد ترسانة تشريعية وأحكام قانونية من شأنها تقويض الشروط الأساسية واللازمة لممارسة حرية الصحافة، وهو في الواقع ما يزيد من كبح جماح الصحافة الاستقصائية أكثر فأكثر.
ديمقراطيات تحت المراقبة
في ألمانيا (المرتبة 16 على جدول 2017 الذي يضم 180 بلداً) صوت البرلمان الاتحادي في خريف 2016 على قانون يتيح المراقبة الجماعية للصحفيين دون استثناء
، وذلك تحت غطاء مكافحة الإرهاب وفقا للقانون والدستور. وبموجب هذا النص الجديد، أصبح بإمكان أجهزة الاستخبارات الخارجية الألمانية التجسس بشكل قانوني على أي مواطن غير ألماني أو لا تنتمي دولته إلى الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك الصحفيين والمحامين، وسط انتقادات شديدة وجدل عارم، حيث أفضى هذا القانون في نهاية المطاف إلى إضفاء الشرعية على ممارسات كان يُعتقد أنها جزء من عهد سابق. فبعد بضعة أشهر من اعتماد القانون، اكتشف الألمان أن أجهزة الاستخبارات الخارجية كانت قد تجسست في عام 1999 على أكثر من خمسين صحفياً ووسيلة إعلامية، وذلك خلال فترة غير محددة.
وفي أواخر 2016، تبنت المملكة المتحدة (المركز 40؛ -مرتبتين في ترتيب 2017) قانوناً جديداً يتيح بدوره توسيع سلطات المراقبة لأجهزة المخابرات البريطانية. ويضع قانون بيانات الاتصالات، المعروف أيضاً بـقانون المتلصصين، المملكة المتحدة في موقف لا تُحسد عليه، بعدما أصبحت تحتل الصدارة على صعيد أكثر تشريعات المراقبة الجماعية اختراقاً في تاريخ الديمقراطيات، إذ لا يشمل هذا القانون أية أحكام تنص على حماية الصحفيين ومصادرهم. لكن الأمر لم يتوقف عن هذا الحد. فقد تجاهلت السلطات البريطانية كل الانتقادات والمخاوف التي أثيرت في هذا الصدد، لتُحيل على البرلمان في مطلع 2017 مشروع قانون جديد يتوعد الحقوقيين والصحفيين وكاشفي الأخبار بعقوبة السجن لمدة تصل إلى 14 سنة في حال إدانتهم بتهمة التجسس.
كاشفو الفضائح تحت مجهر السلطات
برفضه تبرئة كاشفَي الفضائح الفرنسيَين، أنطوان ديلتور ورفائيل هاليت، اللذَين أماطا اللثام عن فضيحة لوكسليكس، يكون جهاز القضاء في لوكسمبورغ قد أرسل إشارة سلبية واضحة لدول مثل بريطانيا أو نيوزيلندا التي تعتزم تجريم عمل أولئك الذين يُبلغون عن الأعمال غير القانونية وأيضاً أولئك الذين يزودون الصحفيين بالملعومات الحساسة. ذلك أن مخاوف الصحفيين تتزايد أكثر من أي وقت مضى في ظل سعي سلطات ولينغتون إلى مواجهة تسريب المعلومات لوسائل الإعلام بفرض عقوبة تصل إلى خمس سنوات في السجن مع توسيع صلاحيات أجهزة مخابراتها بشكل كبير، وهو ما يفسر سبب تراجع نيوزيلندا بما لا يقل عن 8 مراتب لتحتل المركز 13 في تصنيف 2017.
ورغم أن السقوط كان بوتيرة أخف في تشيلي (-مرتبتين)، إلا أن البلاد شهدت جدلاً واسعاً في أعقاب سن قانونين جديدين في إطار ما يُطلق عليه حزمة قوانين الكمامة، التي تتيح معاقبة مسربي معلومات متعلقة بتحقيقات جنائية جارية، علماً أن التصويت على هذه التشريعات تزامن مع التحقيقات التي فُتحت بشأن تورط عدد من السياسيين ورجال الأعمال والقادة العسكريين المحليين في قضايا متعددة تتراوح بين الفساد وإساءة استخدام السلطة وتمويل الحملات الانتخابية بشكل غير قانوني.
هذا ولا يقل المشهد قتامة في فرنسا، التي تبنت في خريف 2016 قانوناً يحمل اسم النائب باتريك بلوش والقاضي بـتعزيز الحرية والاستقلالية والتعددية في وسائل الإعلام، حيث اتخذت الجمعية الوطنية موقفاً واضحاً لصالح حماية سرية المصادر، بينما قرر المجلس الدستوري إلغاء الأحكام المنصوص عليها في قانون بلوش بعد أسابيع قليلة على إقراره، في خطوة تنم عن تراجع خطير.
الصحافة الاستقصائية في خطر
نادراً ما يحمل تشديد الأطر التشريعية أخباراً جيدة بالنسبة للصحفيين. فبعدما تراجعت كندا 10 مراكز في الترتيب السابق بسبب اعتمادها عام 2015 قانون مكافحة الإرهاب الذي يشكل تقييداً فاضحاً لحرية التعبير، عاشت البلاد هذه السنة على وقع سلسلة من الفضائح التي أظهرت بشكل واضح ما تنطوي عليه سرية المصادر من مخاطر. ففي عام 2016، علم ما لا يقل عن ستة صحفيين أنهم كانوا ضحية للتجسس من قبل شرطة كيبيك التي تصدرت عناوين الصحف قبل ذلك ببضعة أسابيع لمصادرتها حاسوب صحفي خلال عملية تفتيش في مقر صحيفته. ففي مونتريال، على سبيل المثال، أصدرت الشرطة ما لا يقل عن 24 أمراً لمراقبة الصحفي باتريك لاغاسي والتجسس على هاتفه المحمول. وفي كل حالة، يكون الغرض هو تحديد مصادر المعلومات، علماً أن الصحفيين ملزمون بحمايتها. لكن هذا المبدأ لم يُحترم بتاتاً في القضية التي جمعت صحفياً من فايس نيوز بالشرطة والقضاء. ورغم التعبئة الواسعة في أوساط وسائل الإعلام الكندية والمنظمات المعنية بالدفاع عن الحريات، بما في ذلك مراسلون بلا حدود، أصدرت محكمة الاستئناف في أونتاريو حُكما يُلزم بين ماكوش بتسليم محتوى مكالماته الهاتفية مع جهادي مشتبه به إلى الشرطة.
وعلى نحو لا يقل خطورة، تواصل السلطات في الولايات المتحدة تنفيذ تدابيرها التي تهدد بانتظام حق الوصول إلى المعلومات، حيث تُعتبر الصحافة الاستقصائية الأكثر تضرراً من هذا الوضع، وهي التي تتوقف بشكل مباشر على سلامة الأشخاص الذين يزودونها بالمعلومات، علماً أنها غالباً ما تقتضي الالتزام بسرية المصادر. فقد اتضح بشكل خاص هاجس إدارة أوباما المتمثل في السيطرة على المعلومات ومحاربة كاشفي الفضائح في عام 2016 من خلال استمرار احتجاز جيفري ستيرلينغ بتهمة تسريب معلومات حساسة، ناهيك عن تكثيف إجراءات التفتيش الحدودية عندما يتعلق بالصحفيين، الأمريكيين منهم والأجانب، حيث يُجبرون على تسليم أجهزتهم الإلكترونية للشرطة. وقد يزداد الوضع سوءاً بعد الاقتراح الذي تقدم به مؤخراً جون كيلي، وزير الأمن الداخلي الأمريكي الجديد، والذي يفرض على كل من يرغب في دخول الأراضي الأمريكية تقديم كلمات المرور الخاصة به للتحقق من أنشطته على الشبكات الاجتماعية، علماً أن تنفيذ مثل هذا الإجراء قد تكون له آثار خطيرة على حماية المصادر وتعددية الأخبار.
ثالثاً. استقلالية في مهب الريح
شهد العام الماضي أيضاً تسارعاً مهولاً لظاهرة تركيز وسائل الإعلام، مقابل تقلص أعداد مُلاكها بشكل تدريجي، وهو ما يزيد من درجة اعتمادها على القوى السياسية والاقتصادية. ففي فرنسا مثلاً بلغ تركيز وسائل الإعلام الرئيسية معدلات غير مسبوقة على نحو يُنذر بخطر تضارب المصالح. ورغم أنها لم تتراجع في تصنيف 2017، إلا أن البلاد شهدت عدة أزمات سلطت الضوء على مدى ضعف استقلالية الصحفيين وطرحت بالتالي مجموعة من علامات الاستفهام بشأن حق كل فرد في الحصول على معلومات حرة ونزيهة.
وإذا كان رجل الأعمال فانسون بولوري لم يُخف أبداً نيته في التأثير على المحتوى التحريري لوسائل الإعلام التابعة لمجموعته فيفندي، فإنه أرسل إشارات واضحة بشأن طريقته في الإدارة على حساب استقلالية المعلومات، وذلك من خلال إلغاء التحقيق الذي كان مقرراً حول مصرف Crédit Mutuel الذي يقوده أحد أصدقائه والتخلي عن البرنامجين المزعجين Zapping و“Spécial Investigation” على قناة Canal +. لكن في المقابل، شهدت محطة iTélé التلفزيونية إضراباً أدى إلى ثاني أطول أزمة اجتماعية في قطاع البث السمعي-البصري منذ مايو/أيار 1968، في محاولة للدفاع عن استقلالية المحتوى التحريري والالتزام بالضوابط الأخلاقية للصحافة، علماً أن هذه المعركة العسيرة وغير المتكافئة أدت إلى مغادرة مئات الموظفين من القناة بينما لم يتم تعويضهم حتى الآن.
أسلوب الخنق الاقتصادي
يُعد الاستقلال المالي والتحريري أيضاً من الرهانات الرئيسية في الصراع الدائر في بولندا بين حزب القانون والعدالة القومي المحافظ ووسائل الإعلام المستقلة. فقد اختارت السلطات البولندية طريق المقاطعة والخنق الاقتصادي التدريجي لوسائل الإعلام المعارضة وذلك من خلال الحد من توزيعها ومنع مؤسسات الدولة من تجديد اشتراكاتها أو نشر إعلاناتها في الصحف التي تستهدفها السلطة الحاكمة. وسرعان ما ظهرت البوادر الأولى لضعف الموارد في صحيفة جازيتا فيبورتشا المعارضة، التي باتت تعيش الآن حالة حرجة للغاية. وتُستخدم هذه الطريقة أيضاً في ناميبيا (المركز 24؛ -7 مراكز) التي كانت حتى عهد قريب تُصنف دائماً في وضع جيد على جدول ترتيب منظمة مراسلون بلا حدود. فقد أصبحت سلطات هذا البلد تحرم وسائل الإعلام المستقلة من عائدات الإعلانات ومن الحصول على المعلومات الرسمية (حيث باتت المؤسسات والدوائر الحكومية ملزمة بإرسال المعلومات الرسمية فقط إلى وسائل الإعلام التابعة للحكومة).
كما يؤدي هذا الخنق أحياناً إلى الاندثار المأساوي. ذلك أن المجر تواصل تقهقرها في الترتيب للعام الرابع على التوالي حيث تحتل المرتبة 71 من بين 180 دولة، بينما تئن صحيفة المعارضة اليسارية الرئيسية - Népszabadság – تحت وطأة ما وُصف بـالانقلاب الاقتصادي. ففي مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2016، أقدم مالك الصحيفة على إغلاقها بوحشية وبشكل نهائي تحت ذريعة الصعوبات الاقتصادية، علماً أنه يشتبه بقوة في تواطؤ هذا المستثمر النمساوي مع حكومة فيكتور اوربان.
وتَعتبر فيرجيني دانغل، رئيسة التحرير في منظمة مراسلون بلا حدود، أن كل هذه الضغوط تُفسد تدريجياً ديمقراطياتنا من الداخل وقد تدفع الصحفيين شيئاً فشيئاً إلى هاوية الرقابة الذاتية لتجنب المشاكل الاقتصادية أو ببساطة خطر التعرض لهجمات لفظية عنيفة على نحو متزايد، مضيفة أن هذا التوجه مثير القلق بشكل كبير حيث لا تتردد الأنظمة الديمقراطية في استخدام أساليب راديكالية أكثر فأكثر لعرقلة عمل الصحافة.
رابعاً. عقبات متعددة على الميدان
أصبحت بعض الدول الديمقراطية حرصية أشد الحرص على صورتها أكثر من اهتمامها بصون المبادئ الأساسية التي قامت عليها، ومن بينها حرية الإعلام. وفي هذا الصدد، حكمت إحدى محاكم أسبانيا (صاحبة المركز 29 من أصل 180 بلداً) في أبريل/نيسان 2016 على مصور محترف بدفع غرامة قدرها 600 يورو لمجرد نشره على تويتر صوراً تُظهر عملية إلقاء القبض على امرأة من قبل الشرطة. وجاء هذا الحكم بعد بضعة أشهر من اعتماد القانون الجديد المتعلق بأمن المواطنين، علماً أن هذا القانون الكمامة، الذي يهدف إلى حماية صورة الشرطة الإسبانية ويقيد بشكل كبير الحق في التظاهر، يعرقل تماماً حق الصحفيين في جمع المعلومات ونشرها.
وحتى في حال انعدام تشريعات محددة، شهد العام الماضي أمثلة عديدة تؤكد الصعوبات المتزايدة التي يواجهها الصحفيون أثناء ممارسة عملهم على الميدان، ولا سيما عندما يتعلق الأمر بتغطية المظاهرات. ففي كندا، حُوكم الصحفي جستين بريك بعدما قام بتغطية احتجاجات المعارضين لمشروع بناء محطة لتوليد الطاقة الكهرومائية بمنطقة موسكارت فولز في خريف 2016 علماً أنه يواجه عقوبة قد تصل إلى عشر سنوات في السجن، حيث شهدت هذه القضية جدلاً واسعاً لما تنطوي عليه من هجوم مباشر على حرية الصحافة. وفي الولايات المتحدة، اعتُقل ما لا يقل عن عشرة صحفيين، من بينهم الإعلامية الشهيرة إيمي غودمان مقدمة ومنتجة برنامج الديمقراطية الآن!، كما تلقوا تهديدات بالمقاضاة لا لشيء إلا لأنهم قاموا بتغطية مظاهرات ضد مشروع بناء خط أنابيب مثير للجدل في ولاية داكوتا الشمالية. وفي نيويورك ولويزيانا، أُلقي القبض على خمسة صحفيين آخرين ووجهت إليهم تهمة عرقلة الطريق العام بينما كانوا يغطون مظاهرات blacklivesmatter# التي تشجب عنف الشرطة ضد الأفارقة الأميركيين.
تتعدد الأساليب، لكن الهدف واحد...
تلجأ الأنظمة الديمقراطية إلى شتى الوسائل لتقييد عمل الصحفيين الذين يتطرقون لمواضيع حساسة من شأنها أن تزعج السلطات. ذلك أن أسلوب حظر مظاهرة للمعارضين ثم منع تغطيتها أصبح متجاوزاً بالمقارنة مع التقنية المُستخدمة حديثاً في ناميبيا، التي تُعتبر نموذجاً ديمقراطياً على صعيد القارة الأفريقية. فقد خصصت سلطات البلاد اعتماداً رسمياً لصحفيَين يابانيَين، وإذا بشرطة مطار ويندهوك الدولي تُصادر معدات التصوير التي كانت بحوزتهما بعدما أنجزا تحقيقاً في إقامة مصنع للأسلحة الكورية الشمالية في البلاد.
وبدورها، تشهد فرنسا عدداً من المحرمات، أو على الأقل المواضيع من الصعب التطرق لها. فعلى سبيل المثال، تعكس التغطية المؤطرة والمحدودة جداً لعملية تفكيك مخيم اللاجئين والمهاجرين في كاليه مدى الصعوبات التي تواجهها وسائل الإعلام في متابعة قضية المهاجرين، وخاصة بالنسبة للصحفيين المستقلين. وخلال عام 2016، اعتُقل عدد من المصورين والصحفيين بينما كانوا ينجزون ريبورتاجات عن المهاجرين في كاليه أو على الحدود الفرنسية-الإيطالية.
فقد أثيرت علامات استفهام عديدة حول طريقة تعامل قوات الأمن الفرنسية مع الصحافة خلال التجمعات الشعبية حيث بات يشار إليها بأصابع الاتهام لتورطها مباشرة في بعض الحالات، كما وقع مع لوران كاريه الذي طرحه عناصر الدرك أرضاً بخشونة خلال تدخل أمني في وادي رويا، علماً أنه قدَّم بشكل واضح الوثائق التي تُثبت عمله كمصور صحفي يعمل لصحيفة ليبرسايون. هذا وقد بلغ عنف الشرطة ضد وسائل الإعلام ذروته خلال المظاهرات ضد قانون العمل في أبريل/نيسان ومايو/أيار 2016، حيث أظهرت بعض مقاطع الفيديو الكيفية التي ضُرب بها عمداً الأشخاص الحاضرون الذين كانوا يصورون تلك الاحتجاجات، بينما أكدت شهادات بعض الإعلاميين أن حمل شارة الصحافة بات يجعل منهم أهدافاً بدلاً من حمايتهم، في سياق يميط اللثام عن العقبات التي تعرقل حرية الإعلام على نحو لا يمت بأية صلة لجوهر الديمقراطية.